الفكر النقابي من أسمى أنواع الفكر الذي انتجه التاريخ الانساني وهو ما دفع الاستاذ جمال البنا الى كتابة رسالة تحت عنوان : الحركة النقابية حركة إنسانية .
هذا الوصف يصدق عليه بطبيعة الحال كان ينطبق عليها قبل ان تدخل عليه عدة أمراض ومنها النزعة الفئوية التي يمكن اعتبارها المرض القاتل للحركة النقابية
هو من افضل ارقى انواع الفكر الانساني لانه قام في الاصل من اجل تحرير الانسان من اشد انواع السخرة التي ال اليها وضع العمال في النظام الرأسمالي المتوحش حيث كان يعمل في شروط لا تليق بالكرامة الانسانية سواء من حيث طول ساعات العمل او هزالة الأجر او شروط الصحة والسلامة . فكان العمل النقابي الناشئ انتفاضة على هذا الوضع ونضالا من اجل انسنة العمل . ومن الأساليب التي أبتدعت اسلوب الإضراب عن العمل باعتباره يمس المستغلين في مقتل
وحيث ان الإضراب لم يكن المتضرر منه هو المشغلون فحسب بل المضربون الذين كانوا يفقدون أيضاً أجورهم الهزيلة ، فان العمال غير المضربين في معامل اخرى كانوا يتضامنون من خلال جمع اسهامات مالية تمكن المضربين من الصمود طويلا ، وترغم أرباب العمل على الرضوخ لمطالبهم
الطابع الانساني للحركة النقابية يكمن إذن في كونها ناضلت من اجل انسنة العمل وصيانة كرامته ، وثانيا في طابعه التضامني اي في وقوف غير المتضررين احيانا مع المتضررين ، ثم بعد ذلك في التضامن العابر للقطاعات والمقاولات ، وفي داخل القطاع في التضامن العابر للفئات ، وهو ما أدى بالتدريج الى انضمام النقابات المحلية او الفرعية او الفئات القطاعية او مختلف القطاعات داخل فيدراليات او كونفدراليات ، فنشأت فكرة المركزيات النقابية باعتبارها إطارا جامعا يتبنى المطالب المشتركة او العابرة للفئات والقطاعات وباعتباره إطارا تضامنيا مع الفئات الاكثر تضررا .
وهنا وجب الاشارة الى وجه اخر من إنسانية العمل النقابي يرتبط بانخراط العمل النقابي في النضال السياسي بمعناه العام ، النضال الهادف الى مواجهة الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي ، وذلك يعني ان النضال من اجل العدالة الاجتماعية في العمل النقابي اذا كان مجاله الاصلي حيث كانت هناك علاقات شغل بين أجير وماجور ، فانه من نبل العمل النقابي ان يهتم بإقامة العدل في المجتمع عامة ويناضل من اجله حتى بالنسبة لاؤلئك الذين ليسوا داخلين في تعريف العمل النقابي ( ما كان موضوعا لعلاقات شغل بأرباب العمل ) .
وحين نتأمل اليوم في العمل النقابي فإننا نسجل عدة تحولات تتجه نحو افقار العمل النقابي من بعده الانساني وجعل الوعي النقابي مجالا من مجالات الوعي الشقي والنضال المزيف !!
كما يتضح من خلال المعطيات التالية :
- مع مرور الزمن سيظهر نمط جديد من "العمال " ممن يسمون بأصحاب "البذل البيضاء " من مهندسين وأطباء واساتذة جامعيين وموظفين سامين واطر تقنية عليا ، بدات هذه الفئة الجديدة تبتعد بمطالبها و" نضالها " عن الطبقة العاملة بمعناها البروليتاري . اصبحت لهذه الفئات مصالحها الخاصة ومطالبها من فئة " خمسة نجوم " ، فصارت تبتعد عن العمل النقابي اي العمل النقابي المركزي وتنشئ نقاباتها الفئوية او احيانا جمعياتها المهنية ، وذلك يعنى فقدان الفئات العمالية الاكثر استضعافا ظهيرا وسندا كان يفترض من منطلق الطابع الانساني التضامني ان يكون كذلك.
والأدهى من ذلك ان بعضا من هذه الأطر قد تحول الى خصم للفئات العمالية الأدنى بسبب العلاقة التراتبية التي قد تجمعه بالعمال او الموظفين في مؤسسة من المؤسسات الإنتاجية
- وداخل نفس المركزية او النقابة القطاعية اصبحت تبرز المطالب الفئوية وتغطى على المطالب الأفقية المشتركة خاصة حين تكون فئة من الفئات كثيرة العدد وممتدة الوجود وتمتلك اكثر من الفئات الدنيا قدرة على الحجاج والدفاع عن مطالبها والتعبئة من حولها . وقد تجاوز الامر في السنوات الاخيرة الفئة المعينة داخل نفس القطاع او المركزية كي تتشكل " تنسيقيات " عابرة للمركزيات اصبحت تتهمها احيانا بالتخاذل في الدفاع عن مطالب الشغيلة ( المقصود هنا هو. الفئة ) .
- والنتيجة الطبيعية لهذا التوجه ان يتلاشى العمل النقابي بأبعاده التضامنية حيث تختل الأولويات وتسعى كل فئة مستقوية بعددها او بقدرتها على التعبئة او بامتدادها على المستوى الوطني . ومن الطبيعي ان ذلك سيكون على حساب الفئات الاكثر تضررا التي من المفترض ان يكون الدفاع عنها في قائمة الاولويات وانه اذا خيرت المركزية النقابية بين الاستجابة للمطالب التحسينية لفئة ما وبين المطالب الضرورية للفئات التي تقع في اسفل السلم خلال مراحل التفاوض الجماعي فان العقل والمنطق والتفكير النقابي الانساني التضامني غير المصاب بمرض الفئوية القاتل ، سيختار انتزاع اكثر المكاسب للفئات الاكثر تضررا .
الطابع الانساني التضامني يقتضي أيضاً ان نفكر ايضا بل اولا في أولئك الذين لا يجدون شغلا من العاطلين او من العمال المياومين والفلاحين الموسميين ولاصحاب المهن الخاصة الصغيرة الذين ليس لهم تقاعد او تغطية صحية ولاؤلئك الذين يعيشون معزولين في القرى والجبال ، ان نفكر ايضا في الطريق التى تفك عزلتهم والمعلم الذي يدرس تلامذتهم والقسم وسقفه الذي ياويهم من الريح والشتاء وصقيع الشتاء ، وكيفية توفير المرافق الصحية التي يحول بين بناتهم ودون الالتحاق بالمدرسة ومناضل من اجل ذلك ونضرب ونشكر الدولة اذا اعتذرت عن الاستجابة لمطالبنا التحسينية باعتبارات تعطي الاولوية لهؤلاء وكانت في ذلك صادقة قولا وفعلا
التفكير المنطقي السليم والوعي النقابي الأصيل يركز مطالبه ونضاله من اجل المطالب الضرورية للفئات الاكثر تضررا ولو على حساب بعض المطالب التحسينية لفئات احسن حالا . وهذا لا يعني ان يتوقف النضال من اجل المطالب الفئوية المشروعة والمعقولة والممكنة التحقيق دون ان تكون على حساب المطالب الضرورية . وكنت دائماً اقول انه ينبغي ان يأتي اليوم التي تقف فيه المركزيات النقابة كي تحتج ضد المدارس المهترئة وضد الظروف السيئة للاشتغال وضد غياب البنج والسكانر وضد تأخر سيارة الاسعاف وضد العزلة في العالم القروي وهلم جرا ...
لكن الأغرب من ذلك ان تجد اليوم أحزابا سياسية تتحمل المسؤولية الاولى عما آلت اليه أوضاع الشغيلة ، تتحمل المسؤولية عن إفلاس صناديق التقاعد والتهرب من إصلاحها حين كان الامر متحملا ، تتحمل المسؤولية عن تدهور أوضاع الصحة والتعليم والخدمات سواء من خلال تحملها للمسؤولية تدبير الشان العام او الشان المحلي ، ومسؤولين تحولوا الى زعماء راكموا ثروات فلكية نتيجة تدبيرهم للشأن الجماعي ، ونقابيين حولوا جمعيات للأعمال الاجتماعية وتعاضديات الى إقطاعيات خاصة يمرحون فيها ويرتعون ، الاغرب ان ترى هؤلاء يقدمون انفسهم كانبياء مصلحين وزعماء منقذين ورموزا للمعارضة يسوقون خطابا "نقابويا" متهالكا .
من الغريب ان يروج هؤلاء لخطاب شعبوي يسهم في انتاج وتكريس الوعي الشقي .
لذلك فان من اهم اولويات الاصلاح القطيعة مع هذا النمط من الوعي في المجال النقابي واستعادة روحه النضالية التضامنية بعيدا عن النزعة التفكيكية الفئوية التي هي من اخطر الامراض التي أصيب بها العمل النقابي . عند ذاك يكون للخطاب النقابي والنضال النقابي مصداقية وحينها يحظى النقابيون بالاحترام الذي يستحقونه داخل المجتمع !!