فجأة وجدت نفسي اساق سوقا الى شاحنة نحو وجهة مجهولة في مغامرة مهولة..ظننت ان صاحبي قد جفاني وعني قد تخلى وكفر عشرتي وتجاهل حسن خدمتي وتولى ، وصبري أياما طويلة على الحرمان من الشعير والاكتفاء بالتبن وما اقضمه من حشائش على الطريق ، حين يتوقف للسلام والحديث مع صديق او رفيق ، او حين يضطر للذهاب لقضاء حاجته او اقتناء مؤنته او التوقف عند الصاكة لشراء علبة من دخان او عند بائع المادة المحرمة كي يشتري شريحة من " جوان " .
ظننت انه يقودني الى السوق يريد ان يبيعني فقلت ان الله لن يضيعيني ، وربما استبدلني به مولى خيرا من مولاي .
كان اليوم يوم سوق اي يوم احد لكني في الطريق المؤدي اليه لم ار من غيرنا احد .
حتى اذا تجاوزت بنا الشاحنة التلة الاولى ثم الثانية ، وأطلت بنا على سهل منبسط سمعت ضوضاء غير معهودة وأيدي مرفوعة وأخرى ممدودة ، وأصواتا بحت بها الحناجر بعضها يحمل سيوفا وخناجر ، فظننت ان الامر شحناء بين قبائل وانه بعد حين سينطلق الرصاص وتنفجر القنابل
لكن لشدة دهشتي وعمق حيرتي وجدت آدميين يحشرون معي أنا الحمار ، وهذا في عرفهم هو عين الاحتقار لآدميتهم ، وسمعت لهم على طول الطريق من الصراخ والنعيق ما هو ابشع مما يصدر عنا طبعا وسجية نحن معشر الحمير من النهيق ، فحن قلبي الى رفيق من بني جلدتي يواسيني في محنتي
وما ان أشرفنا على تلة جديدة راينا على الطريق فى انتظارنا أفواجا جديدة كان منه فوج يقود هو الاخر حمارا ، وضعيته كان أسوا من وضعتي
قلما رأيت ما حل به من استخفاف وما نالني من استضعاف وانكرت واستنكرت ما البست من لباس بني البشر وما وضع على عينيه من آلة نظر قيل انها تشبه نظارة بن كيران ، وما طلي به جلده من أصباغ وما رقم به من كتابات وشعارات يشبهه فيها بعضهم ب " رئيس الحكومة " ،
هانت على نفسي مصيبتي فصرت اواسيه ، واخفف ما به قد نزل ، وان النصر مع الصبر ، وان مع العسر يسرا ، وانه لا ينبغي لنا معشر الحمير ان نؤاخذ بني البشر مما فعله بعض السفهاء منهم ممن شربوا عصير الشعير ، وانه رب ضارة نافعة ، وانه ربما كان هذا الابتلاء فرصة لدخول بني الحمير الى التاريخ من أوسع ابوابهم ، وبداية كي يشرع في الاعتراف بحقوق الحمير ،
وان البلادة ليست ضربة لازب او قدرا محتوما وان الحمير اذكي مما يتصورون وأعقل من كثير من بني البشر . فان للحمار شاوا عند الامم وان الحمار اجمل مما يتصورون وأذكى مما يتوهمون ، وانه لولا الحمار لما دخل زيت او سكر الى أزقة فاس القديمة ، ولا كانت مدرسة او مسجد او قيسارية او دباغة وجلد وبلغة .. ولا كانت صنائع وفنون لم يتعلم منها بعض الصعاليك ما تعرفه عنها حمير فاس .. وهلم جرا ...ولا زفت فيها عروس الى بعلها او ركبت راكبة فيها على بغلها !!!
مرت علينا ساعات من السفر على طريق لاحب واسع جميل سمعت انهم يسمونه ب " الاوطورت " ، توضع على جنبتيه اسلاك واسوار إسمنتية او حديدية قالوا : حتى لا تدخله المواشي والبقر .. والحمير ايضا لان في دخولها دون انتباه او غفلة من سرعة المركبات المجنونة تقع مصائب وكوارث !!
لكن بني البشر كما سمعت صاحبي يروي لصاحبه اصبحوا هم الضحية الاكبر لتلك العربات المجنونة لأنهم مجانين يقفزون على تلك الأسلاك والأسوار طمعا في سرعة الوصول والاختصار ، فقلت : يا للعار ما أعقل واحكم الحمار من هؤلاء الادميين !!
وفي حاجر من الحواجز مددت عيني من النافذة ، فاذا بي استفيد فائدة : رأيت " اتانا " و " حرمة" من بني الحمير لا توقير لها ولا نصير ، يركب عليها وهي في شاحنة تجري وتطير ، فعلمت ان المصيبة قد طمت وان الإهانة للحمير قد عمت .
فما وصلنا الى مدينة الرباط وكان لي شوق الى زيارتها ذات يوم خاصة ان لي فيها بغلة هي اخت من ابي بيعت في سوق نخاسة للحمير والبغال خسيس ، وسمعت ان صاحبها الجديد وسيدها المجيد نقال بشر على عربة مجرورة من سوق الكلب الى سوق الخميس
لكن لتعس حظي وسذاجة نيتي وطويتي واحسان الظن في بني البشر لم لتسلم رحلتي من معاناة ولم أنل بغيتي او اظفر بمنيتي
فقدأنزلونا بعنف وغاب في صنيعهم اللطف واشتد فيهم اللغط وقوي منهم الصراخ .
زعق الجمع وصفقوا وهرجوا ولم ادرك لكلامهم معنى او لمطالبهم مبنى ، وقلت مع نفسي كما انه لا يمكن في يوم من الايام ان تكون النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة ، فانه ليس من الممكن ان يستوي السائر المناضل مع الخارج المرتزق السائل . كما انه لا يستوي الحمار الذي خلقه الله حمارا قضاء وقدر وبين الحمار من بني البشر
وأيقنت انه لا ينبغي ان يامل بنو البشر خيرا فيمن أهاننا نحن بنو الحمير ..
ذلك اني لم أر في حياتي في الحمير جمعا ضخما مثل هذا هائجا ، يسب ذات اليمين والشمال مكفهرا مائجا ، وقد نزع كثير منه كسوته وعرى سواته ، فعلمت ان انكر المنكر ان تكون بشرا ويكون كلامك نهيقا ، فالنهيق في جنس الحمار جبلة وطبيعة وفي بني البشر مسبة فظيعة ، واذا جاز للحمار ان يحمل اسفارا وهو لا يدرك ما تحويه من علم لانه لم يعلم الاسماء التى تعلمها ادم وورثها خلفه ونسله ، فان من هو اولى بوصف الحمارية ليس نحن بنو الحمير بل حمير بني البشر
انتهت الجوقة وتفرق الجمع وانتهت المسيرة وركبت مع الجمع نحو موطني بعد الظهيرة . قطعت بنا الشاحنة المسافة والكيلومترات الاولى والأخيرة والزعق والصراخ لم تتوقف له وتيرة .
انشغلت بتحسس الام ظهري وتفقد كدماتي ، وبلغ منه النصب والتعب حتى صار منيتي ان اكون الى مماتي اقرب من حياتي
ولما كان يوم السوق من الاسبوع الموالي ما كان من حديث في سوق الحمير الى مشاركة الحمير في مسيرة بني البشر . تشكل وعي حماري مشترك وتواعدوا ان أمة الحمير لن تسمح بتكرار مثل تلك الاهانة فتشكلت لجنة وطنية للدفاع عن حقوق الحمار ، وانه اذا جاز الاحتجاج على بن كيران فلكونه لم يقم بواجبه في حماية حقوق الحمير من تعسف التماسيح والعفاريت وقرروا مكاتبته في برقية مختصرة تقول : " واش فهمتينا ولا لا "