نشر السيد عصيد في مؤخرا على أعمدة يومية " المساء " مقالا تحت عنوان " الحرية عند الإسلاميين: أنت حرّ... داخل بيتك. إلى محمد يتيم " يرد فيه على مقال لي سبق أن على صفحات نفس الجريدة تحت عنوان " الحريات الفردية في ظل حكم الإسلاميين" ادعى أنه يتضمن مواقف تتناقض مع " مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها، وكما ينصّ عليها الدستور المغربي وتلتزم بها الدولة المغربية" ، بل تتناقض حتى مع الفهم السليم للدين.
والقارئ لمقال عصيد يمكن أن يخلص إلى أنه ابتدع تصورا مؤدلجا لمفهوم الحرية الفردية ، خلاصته أنه باسم الحرية يمكن لفرد أو لمجموعة أن يفرضوا استبدادهم الفكري والسلوكي على الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع ، تصور صادر من خلاله حق الجماعة والدولة والأمة في أن يكون لها نظام عام وقيم مشتركة تشكل أساس اجتماعها ، بمقتضاها يمكن أن تضع القواعد الدستورية التي تحدد العيش المشترك ، والقوانين التي تعين حدود الحرية الفردية وبداية المشترك الاجتماعي ، تصور أسقط حق الجماعة في أن تضع القواعد الحامية للنظام العام من خلال مؤسسات شرعية ومنتخبة.
ومفاد " أطروحة "عصيد أنه لا معنى ل " الحرية الفردية " إلا أن يكون بإمكان الفرد أن يتحرر من أي قيد أو من أي اعتبار للنظام العام للجماعة ولقيم المجتمع وقوانينه ومؤسساته وإلا فأنت تقول " إنك حر لكن داخل بيتك " ، خاصة و أن تلك القيم أو القوانين والمؤسسات المنبثقة عن الأغلبية يمكن أن تكون " رجعية " وماضوية ، وأن الديمقراطية التي أفرزتها ما هي إلا ديمقراطية عددية ، وأن الواقع يبين أن عددا الحقوقيين في المحافل الدولية والوطنية ما فتئوا يناضلون من أجل تغيير عددا من القوانين المضيقة للحريات الفردية كما يفهمها ويعرفها السيد عصيد .
الأخطر من ذلك أن عصيد لم يجد غضاضة في أن يدعي بأن ما أوردته يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا ، وكما ينص على ذلك الدستور المغربي ، في تدليس وافتراء مزدوج على مبادئ حقوق الإنسان ومبادئ الدستور المغربي ، من جهة وعلى الدين من جهة ثالثة الذي أنه أفهم له من علماء الأمة وأجيالهم المتتابعة، وهو ما سنثبته في هذا المقال .
أنتم أحرار في أن تصوموا وتصلوا .. المجاهر بالإفطار والسكر العلني أيضا يمارس حريته .
ما يمكن استخلاصه بعد قراءة مقال عصيد أنه يقول للمغاربة المسلمين السنيين بنسبة تسعة وتسعين بالمائة واضعا في الكفة الأولي من ميزانه المختل فهما شاذا لمفهوم الحرية الفردية ، وفي الكفة الأخرى الأمة بكامل تاريخها وعقيدتها ونظامها الأخلاقي ، ساعيا بجرة قلم شطب نظامها كل ذلك النظام الذي تشكل في المجتمع المغربي عبر تاريخ طويل ، وتوافقت الأمة عليه اليوم بتضمينه في الدستور .
أيها المغاربة المسلمون : كما أنكم تمارسون حريتكم بممارسة مظاهر تديّنكم في المجتمع، و نحن العلمانيين متسامحون معكم في في ذهابكم إلى المسجد ولا نتدخل في حريتكم الفردية في أداء للصلاة، بل متسامحون معكم في صلاتكم على قارعة الطريق أحيانا، وفي إطالة اللحى وتنقيب نسائكم أو تحجيبهن ، متسامحون مع رفع الصّوت بالآذان في المساجد أو في أي مكان، وحضوركم مجالس الوعظ والإرشاد الديني وممارسة "الدعوة" بمناسبة أو بدونها، ونعتبر ذلك من ممارستكم لحرياتكم الفردية ، وتمارسون حريتكم الفردية في صيام رمضان والامتناع عن الأكل طوال اليوم ونحن متسامحون معكم ولا نتدخل في تلك الحرية ، فليس لكم أن تمنعوا الإفطار العلني في رمضان لأنكم تصادرون الحرية الفردية ، وكما أن لكم أن تمتنعوا عن التبضّع من المتاجر الكبرى التي تباع فيها الخمور، فليس لكم أن تمنعوا بيع الخمور للمسلمين والعلمانيين من السكر . متسامحون معكم لأننا نحترم حريتكم في تجنب التجمعات الإحتفالية التي تعرف "الاختلاط" والرقص والغناء ، ومتسامحون معكم حين لا نعترض على تفضيلكم ارتياد الحدائق والغابات والامتناع عن الذهاب إلى الشواطئ ، ولذلك فليس لكم أن تتدخلوا في حرية الإبداع وأن تننقدوا ما قد يبدو لكم فيها ماسا بقيم المجتمع ومقدساته، ومتسامحون بعدم منع الآذان لأنه يزعج النائمين المتأخرين في ممارسة حرية السهر في النوادي الليلية ، فليس لكم أن تمنعوهم من ممارسة حريتهم في الفضاء العام بالإفطار العلني أو السكر العلني ، أو بإقامة الاحتفالات الراقصة ولو خذشت الحياء العام بسبب أنكم محافظون ولكم تصور متزمت عن الدين والأخلاق. إنكم حين تفعلون ذلك وتقومون بذلك تقولون للعلمانيين إنكم أحرر ولكن داخل بيوتكم.
يقول عصيد لكم أن تمتنعوا عن مشاهدة فيلم إباحي أو مسرحية ترون أنها تمس بالأخلاق والذوق العام ، فحرية المحافظ ليست في المطالبة بمنع مسرحية أو فيلم، بل هي في عدم الذهاب لرؤية تلك الأعمال واختيار العروض المناسبة لنزعته المحافظة، لأن المسرح والسينما ملك للجميع. إن حرية المتديّن إذن لا تمكن حسب عصيد أن تكون في فرض نمط عيشه وذوقه وميوله الدينية على الآخرين وإلزامهم بالانسحاب من أمامه لكي لا تمسّ مشاعره .وبطبيعة الحال فإن هذا التصور لم يقل به متدين عاقل وسبق أن بينت في المقال الذي أثار حفيظة عصيد أنه لا إكراه في الذوق الفني أو في السلوك الخلقي من باب أولى ما دامت القاعدة القرآنية تقول : لا إكراه في الدين .
أما أن إن تستفزكم هذه المظاهر من "الاختلاف" يقول مقال عصيد فأنتم ضحية مفهوم منحرف للتديّن، وتعانون من نقص في الإلمام بدينكم من منظور منفتح، ومن انعدام التربية على حقوق الإنسان وعلى احترام الغير كما هو، لا كما يريده المؤمن أن يكون.
نحن العلمانيين يقول لسان حال ومقال عصيد نعتبر أن تلك السلوكات تدخل عندنا في باب الحريات الفردية التي يجب أن تحترم، ولا ينبغي أن تعرقل أو تمسّ أثناء القيام بها، على عكس الإسلاميين المتشدّدين.
المتشددون تبعا لذلك حسب عصيد لهم خلل لمعنى "الديمقراطية" و"الحرية" ، فهي بالنسبة لهم ما يمنحهم الحرية في فعل ما هم مقتنعون به، ولكنها لا ينبغي أن تمتد لتشمل حريات غيرهم التي ينبغي الحجر عليها.
حق أريد به باطل
والواقع أن ما ذهب إليه عصيد وإن كان يبدو في الظاهر منطقيا إلا أنه عند التأمل يخفي تدليسا لا يستعصي على الكشف بأدنى مجهود فكري . فجوهر الخلاف ليس حول الحرية الفردية ، وحرية الضمير التي لا يمكن لقوة القانون أو لقهر السلطة أن تصادرها . المشكلة هي أنه حين باسم الحرية الفردية يراد فتح باب لضرب النظام الأخلاقي للمجتمع والاعتداء على هذا النظام ، ومحاكمة مجتمع إسلامي له رؤيته للكون ونظامه الأخلاقي إلى نظام أخلاقي ينطلق من رؤية فلسفية علمانية متطرفة ، ليس عليها إجماع حتي في الدول الغربية ، ومن ثم فقضية الحرية الفردية كما يطرحها عصيد هي حق أريد به باطل .
وعصيد واضح في هذه القضية فهو لا يخفي عداءه للرؤية الإسلامية والمنظور الديني عامة ، وكان من الممكن أن نتفهم الأمر لو كان يتعلق بفهم للإسلاميين ، لكن عصيد يكشف بصراحة عن أن الأمر يتعلق بعداء فلسفي من الأصل مبعثه تبني أقصي صور التطرف في المنظور العلماني ، وهو ما يجعل النقاش غير ذي جدوى ولا نتوقع أن تكون له فائدة لولا أن الحاجة ماسة لكشف بعض المغالطات والتنبيه على أن هذا ديدن الرجل .
ويكفي أن نشير إلى ما قاله في دفاعه عن الوثنية وأنها تحرر الإنسان أكثر من التوحيد ، وهو ما جاء في مقال له تحت عنوان : " الحرية بين الفرد والجماعة " : " إن القول إن إيمان الناس بآلهة متعدّدة لا يحرّرهم من الخوف، يتعارض مع مبدأ الحرية، لأن الإيمان بالآلهة المتعددة كان عمليا أكثر حرية من التوحيد الذي سرعان ما تحول في الديانات السماوية الثلاث إلى دوغما باعثة على كل أنواع العنف والإكراه، والتي ما زالت مستمرة لدى المسلمين حتى الآن. " مقال منشور على موقع هسبرس
مشكلة عصيد ليست الدفاع في الحريات الفردية ومقاومة أي استبداد تسلطي يقوم على التدخل في خصوصيات الناس ، والكشف في ضمائرهم وسلوكاتهم الفردية بل إن مشكلته في الدفاع عن "الحق" ، في المجاهرة بما يمس النظام ، و"الحق " في استفزاز الأخلاق والآداب العامة ، واستفزاز عقيدة شعب مسلم ومقدساته وشعائره التعبدية ، شعب لم يشتك يوما من شعيرة الصيام ، ولم يقل إنها مفروضة عليه بالقوة العمومية ، والأمر أنه ليس هناك من موجب لمن ليس مقتنعا بالصيام كي يمارس ذلك علنا وهو يعلم أن فيه من الاعتداء على الضمير المسلم مما لا داعي له ولا موجب ، إلا داع واحد لا غبار عليه ، وهو تحطيم قدسية هذه الشعيرة أو تلك في نفوس المؤمنين وأبنائهم ممن ينشؤونهم على محبة الشعائر الدينية ، مما يدل على أن الأمر لم يعد يتعلق بممارسة للحرية الفردية ، وإنما ب " نضال " ضد المجتمع ونظامه العام وقوانينه ، واعتداء على النظام العام مع الترصد وسبق الإصرار .
كان على عصيد أن يتحرى الوضوح وعدم التستر أمام تصور شاذ للحرية ، وأن يقول إننا أمام مجتمع رجعي محافظ ، وأنه في مواجهة مثل هذا المجتمع ونظامه الأخلاقي المتزمت اخترنا طريق " النضال " من أجل نقله إلى طور الحداثة وما بعد الحداثة ولم لا بوضوح أكبر إلى التصور الوثني الذي هو أكثر تحريرا للإنسان من "دوغما التوحيد" ، وأن يتحمل من اختار ذلك تبعاته ونتائجه ، لا أن يصطنع تصورا جديدا لمفهوم الحرية الفردية لا يوجد حتي في أشد العلمانيات الأوروبية تطرفا حيث تنص دساتيرها وقوانينها على حماية الفضاء العام ، وأن الحريات الفردية لها حدود تبتدئ حين تبدأ حريات الآخرين ، وحيث يرى القانون أنها تصبح مضرة بحقوق الآخرين أو بقواعد العيش المشترك في الفضاء العام.
ما يقوله عصيد حق أريد به باطل لأننا لم نطرح يوما قضية الإبداع الفني من زاوية الرغبة في مصادرة حرية الإبداع ، كما أننا لم نقل يوما بأنه ينبغي أن تقوم شرطة للأخلاق ترصد القاصدين لقاعات المسرح والسينما لتفرض عليهم غرامات ، القضية لم تطرح يوما من هذه الزاوية ولكن تطرح من زاوية بناء سياسات عمومية كاملة يصرف عليها من مال شعب لترسيخ توجهات فنية وقيمية معينة . وهنا وجه آخر من وجوه مغالطات عصيد.
كان كلام عصيد سيكون مستساغا ومقبولا لو كان وجه اعتراض الإسلاميين على حق الفرد أن لا يصوم في رمضان ، لكن يطرح سؤال كبير في الدفاع عن" الحق في المجاهرة " بالإفطار ، في حين لا شيء يبرر إصرار المفطر الذي لا يؤمن بفرضية الصيام على أن يفعل ذلك علنا إلا أن يكون الموجب هو تحدي الشعور العام والنظام العام وتحطيم قدسية الصيام في مجتمع مسلم ولدى ناشئته . و في هذه الحالة يتضح أن القضية لم تعد تتعلق بممارسة الحرية الفردية ، وإنما بحرب إيديولوجية معلنة واستعداء مقصود لضمير ووجدان المجتمع وسعى تدريجي حثيت لاستنبات مفاهيم جديدة وقيم جديدة مختلفة كلية عن قيم المجتمع .
وحيث إنه لا مجال في هذه الحالة أن تجد تصرفات شاذة بمقياس المجتمع وقيمه ونظامه العام وهو نظام موجود في كل مجتمع ، ويعترف به القانون الدولي ، كما يعتبر مرجعية لدى القضاة وفقهاء القانون فالحيلة هي الاحتجاج بمفهوم شاذ للحرية الفردية يقوم على أساس أنها حرية مطلقة غير مقيدة لا بقيد قانوني أو عرفي أو ثقافي .
لقد صدق عصيد حين قال إنه إذا كان من باب ممارسة الحريات حق بعض الأفراد في المجتمع أن يشربوا الخمر أو أن يذهبوا إلى المسابح المختلطة وحضور الحفلات الراقصة تماما مثل حق الآخرين من المتدينين الامتناع عن ذلك . لكن المشكلة لا تكمن ها هنا اليوم ، بل تكمن في أن البعض يبحثون لمفهوم الحرية عن أساس فلسفي أو إيديولوجي لا يراعي الأسس والمبادئ الدستوية التي تقوم عليها الدولة ، والقيم المشتركة التي يقوم عليها المجتمع المغربي .
المشكلة ليست في أن يتعاطي مواطن مغربي الخمر أو يعاقرها في خاصة نفسه أو في الفضاء العام ، المشكلة في أن البعض يريد أن يغير تلك الأسس ويستبدلها بأخرى ، و في سن سياسات عمومية مفروضة من الأعلى من أجل خلق توجهات قيمية جديدة غير منبثقة من مجتمعاتنا الإسلامية المشكلة في أن أقلية معزولة تريد أن تمارس استبدادها على المجتمع المغربي كله ، وهو الذي لم يشتك لتلك الأقلية معاناة بسبب أن الدولة تمارس عليها إرهابها في منعه من الإفطار العلني في رمضان ، أو السكر العلني في قارعة الطريق
الاعتراض لم يكن يوما ما وهنا وجه التلبيس أن ينتج منتج سينمائي فلما يمس بقيم المجتمع أو أن يشاهده العلماني أو غيره الفيلم الذي يريد ، فتلك حريته يمارسها كما يشاء ، ولكن الاعتراض أن يتم تسخير الأموال العمومية والدعم العمومي لأفلام أو مهرجانات تمس قيم المجتمع ، وعلى عرضها في القنوات العمومية التي يمولها شعب مسلم من أمواله المفروض فيها تقديم خدمة عمومية لا أن توظف في حرب إيديولوجية, والاعتراض أن يواجه أي نقد سواء انطلق من المعيار االديني والأخلاقي أو من المعيار الفني ، أو من معيار محاسبة سياسة عمومية بحملة إرهابية ، وكأن النقد انطلاقا من أي معيار شئت من المعايير السابقة ليس ممارسة لحرية التفكير . فهاهنا تباك على الحرية الفردية ، وهناك سعي للترهيب والاستعداء والتجييش باستخدام سلاح المظلومية .
نقول للسيد عصيد إن هذا التصور الذي جئت به لمفهوم للحرية الفردية وحرية الإبداع لا يوجد في أي بلد في العالم ، ولا يمكن أن يسمح به في أي مكان من العالم مهما بلغ البلد في الديمقراطية واحترام الحقوق الفردية . تماما كما أنه لا يمكن لمشاهد مسلم أن يفرح يوما من الأيام بمشاهدة مذيعة ترتدي الحجاب على قناة من القنوات الفرنسية ، رغم أن ارتداء الحجاب هو مظهر من مظاهر ممارسة الحرية الفردية . فحتي لدى العلمانية الفرنسية هناك شيء اسمه الفضاء العام تصبح فيه ممارسة الحرية الفردية مقيدة بعض النظر عن اختلافنا وتصورنا مع التصور الفرنسي في هذه الحالة حين تتعارض مع ذلك التصور لطبيعة الفضاء العام ، الذي ينبغي أن يخلو من كل شارة أو إشارة دينية حتى لو ترتب على ذلك مصادرة الحرية الفردية .
يعلم عصيد أنه لا يمكن باسم حرية الإبداع في فرنسا الحرية والديمقراطية والمساواة إنتاج فيلم وترويجه في القاعات الخاصة أو في القنوات العمومية يتضمن دعوة لقيام النظام الملكي على أنقاض الجمهورية ناهيك عن أن يتضمن إشارة إلى النزعة العنصرية للهصيونية رغم أنه قد يكون عملا إبداعيا محضا .
ولذلك فمفهوم للحرية الفردية الذي تبناه لا يوجد إلا في مخيلته بينما الدنيا كل الدنيا تقر أن الحرية الفردية هي حرية مما لم تتحول إلى دوس لحقوق الآخرين ، وللنظام العام ، والعالم كله والمواثيق الدولية تقر أنه لا حدود للحرية ، إلا حدود القانون وحدود النظام العام .
تدليسات عصيد حول حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها وتدليسه حول منطوق ومضمون الدستور في هذه المسألة
بمقتضى مفهوم مدلس عن حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا ، وعن الحرية الفردية ، وعن العلاقة بين الحرية الفردية أو حق الفرد وحقوق الجماعة ، بين المجال العام والمجال الخاص ، من خلال استدلال سوفسطائي يقوم على " نظرية النسبية المطلقة " أي النظرية القائلة : لا وجود لحقيقة موضوعية أو على الأقل لمشترك اجتماعي يمكن البناء عليه ، وأن الأشياء هي بالنسبة لي كما تبدو لي وهي بالنسبة كما تبدو لك ، وهي النظرية التي يسميها المتكلمون بنظرية " تكافو الأدلة " ، سعى عصيد إلى تمرير تصور عجيب وغريب عن العلاقة بين المستويين ،.
وقد ترتب على هذا الاستدلال الفاسد بناء تصور للحرية الفردية ، ولم يقل به سابقون ولا متأخرون ولم تعمل به حتى فرنسا بلد الثورة وأشدها تشددا في العلمانية ، ولم يقل به لا القانون الدولي ولا دساتير الدول الأكثر علمانية ، حيث إنه باسم تصور إيديولوجي لمفهوم الحرية الفردية يمكن استباحة المجال العام والذوق العام والنظام العام ، وأنه باسم النسبية والتطور والكونية ، يمكن مصادرة حق مجتمع كامل في التشريع والتقنيين والتنظيم وحماية المجال العام والنظام العام ، وأنه تحت ذريعة وجود قوانين يمكن أن تكون متناقضة مع الحرية يمكن مصادرة حق الأغلبية في التقنين لأنها أغلبية " رجعية " ومحافظة " ، وباسم أن القوانين ينبغي أن تكون ضامنة للتعايش ، وبحكم وجود مناضلين حقوقيين في المنتديات الدولية يناضلون ضد قوانين تكرس الظلم والاستبداد ، ومنها ضمنيا كما هو مفهوم القوانين التي تضبط حرية الأفراد بعدم المساس بالنظام العام ، يمكن للبعض وقد يكون أقلية لا اعتبار لها أن يفرض فهمه للحرية الفردية أي رفضه لقوانين المجتمع ونظامه وقيمه أي أنه باسم الحرية الفردية وباسم الفهم الكوني لحقوق الإنسان ، وفهمه المتنور للديمقراطية يمكن أن تستبد الأقلية المتنورة الحداثية بالأغلبية الظلامية الرجعية .
حول دلالة حقوق الإنسان المتعارف عليها عالميا
ومن أجل تنوير القارئ دعونا نلقي الضوء على تدلسيين آخرين : أولهما التدليس المتعلق بفهم بعض العلمانيين المتطرفين لمفهوم كونية حقوق الإنسان ومفهوم سموها الذي يقصدون به التبني الحرفي لكل تضمينات مفهوم حقوق الإنسان بما فيها تلك التي تتعارض مع قيم الأمة ونظامها الأخلاقي والنظام العام . وثانيهما : الادعاء بأن تقييد الحرية الفردية بقيد القانون وقيد النظام العام معناه أننا تقول للناس : أنتم أحرار لكن داخل بيوتكم .
بخصوص شعار الكونية يمارس بعض العلمانيين المتطرفين تضليلا لا يمكن أن ينطلي على من له أبسط دراية في القانون الدولي ، حيث يريدون منا أن نتبني منظومات فكرية وأخلاقية تنطبق أكثر على بعض التجارب الغربية التي تبنت أقصى صور العلمانية تطرفا ، حيث يتم تحييد كل ما له علاقة بالدين من المجال العام . يريدون منا كي نكون كونيين أن نتخلى عن جلدتنا وهويتنا وثقافتنا وقيمنا .
ومن دون شك فقد راكمت البشرية وتوافقت عبر تاريخها الطويل على عدد من القيم الإنسانية التي لم تعد ملكا للشرق والغرب ، أو لهذه المجموعة من الدول أو تلك منها العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية والحرية والحق في الحياة والحق في التنقل والحق في التملك والحق في التعبير عن الرأي وحرية المعتقد وهلم جرا . وفي كل هذه القيم يوجد قدر كبير من الاتفاق حتى إن الدارس أحيانا يكاد يجزم أن مساحة التقاء مضامين خطبة الوداع مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تكاد تكون شبه كلية رغم اختلاف الأزمنة واختلاف المرجعيات .
لكن هل يعني ذلك أن التوافق تام ومطلق ؟ هل يعني التوافق أن هناك مجالات بعينها بقيت غير خاضعة للتوافق ؟ الواقع أن مجالات عدم التوافق لا تزال قائمة ليس بين دول الغرب والدول الإسلامية ، بل إنها قائمة بين الدول الغربية نفسها ، بل حتى داخل نفس الدولة .
في قضية مثل قضية إباحة الإجهاض الذي يمكن النظر إليها على أساس أنها داخلة في نطاق الحربة مسألة تجد اختلافات بين الدول الغربية بل ربما داخل نفس الدولة أحيانا ، وما يرتبط به من اعتراف واحترام للحق في الحياة، ونفس الشيء بالنسبة لقضية إلغاء عقوبة الإعدام ، حيث يتفاوت الموقف فيها مثلا داخل الولايات المتحدة بين ولاية . يسبب أن الدستور الأميركي يولي صلاحية سن القوانين الجزائية إلى الولايات وحكوماتها وهيئاتها، ويقدمها على الحكومة الاتحادية. فلا يسع الكونغرس بواشنطن إلغاء عقوبة الموت الا من طريق تعديل دستوري. ولا يتحصل تعديل دستوري الا بغالبية موصوفة في الكونغرس يعضدها إبرام ثلاثة أرباع الولايات مشروع التعديل المقترح.
فكيف يمكن أن ننكر أنه بالانتقال من ثقافة لأخرى سيقع الاختلاف في تنزيل هذا الحق من حقوق الإنسان ، وأن هناك قدرا في هذا الحق يمكن اعتباره متوافق عليه عالميا ، بالقدر الذي توجد فيه مساحة تكبر أو تصغر هي مجال للتباين الذي يرجع إلى اختلاف السياقات الثقافية والمرجعيات الدينية والفكرية والفلسفية ؟
في ثقافتنا الإسلامية مثلا ولعصيد أن لا يرى نفسه فيها لكن المغاربة وأغلبيتهم الساحقة يعتبر الحق في الحياة أو حفظ النفس من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية ، وبمقتضى التصور الإسلامي لا يملك الإنسان حق قتل نفسه ولا يمكن اعتبار هذا الفعل من صميم ممارسة الحرية الفردية .
كما أن حفظ المال باعتباره من كليات الشريعة يعطي للجماعة الحق في الحجر على " السفيه " الذي يسيء التصرف في ماله ولا يمكن مصادرة حق الجماعة في الحجر عليه بدعوى أنه يمارس حريته الفردية ... وهلم جرا .
وباختصار فإنه لا يمكن باسم كونية حقوق الإنسان مصادرة الاختلافات في تنزيل هذه الحقوق الراجع إلى اختلاف المنظومات الثقافية والفكرية ، لأن السعي إلى تنميط العالم والمجتمعات في منظور سكوني واحد لهذه الحقوق هو مصادرة لواحد من الأسس التي تقوم عليها حقوق الإنسان ألا وهو الحق الاختلاف . ولذلك فالمتعارف عليه من حقوق الإنسان هو المساحة المشتركة التي لا خلاف فيها ولا يؤثر فيها اختلاف السياقات الثقافية والحضارية .
إن فكرة الالتزام بقضية حقوق الإنسان كما هي متوافق عليها لا تعني التطابق الكلي أو الخضوع لتأويلات فلسفية أو إيديولوجية أو ثقافية لقضية من قضايا حقوق الإنسان وكذلك الأمر لبعض مضامين الاتفاقيات الدولية .
القانون الدولي يحفظ الحق في التنوع و الخصوصية
وحيث إن القانون الدولي واع بوجود هذا الهامش من عدم التوافق الكلي فإنه ترك الهامش مفتوحا للحق في التحفظ كم دققت وتوسعت في ذلك اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات التي نصت على عدد من المقتضيات الهامة في قواعد المعاهدات الدولية منها مثلا :
ما نصت عليه ديباجتها من أن مبادئ حرية الإرادة، وحسن النية، وقاعدة العقد شريعة المتعاقدين معترف بها عالمياً، مما يدل على أن الانضمام إلى المعاهدات والاتفاقيات يتم ضمن سيادة الدول .
التنصيص على مفهوم التصديق كحق للدول مع تحديد المصطلح تحديدا دقيقا في المادة 2 من الاتفاقية حيث جاء فيها بالحرف : " يقصد ب "التصديق" و"القبول" و "الموافقة" و "الانضمام" الإجراء الدولي المسمى كذلك، والذي تقر الدولة بمقتضاه على المستوى الدولي رضاها الالتزام بالمعاهدة؛
الإقرار بحق الدول في التحفظ الذي عرف في الفقرة (د) من نفس المادة على الشكل التالي :
" يقصد ب "تحفظ" إعلان من جانب واحد، أيا كانت صيغته أو تسميته، تصدره دولة ما عند توقيعها أو تصديقها أو قبولها أو إقرارها أو إنضمامها إلى معاهدة، مستهدفة به استبعاد أو تغيير الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدة من حيث سريانها على تلك الدولة".
تضمين الاتفاقية إمكانية التعبير عن رضا الدولة الالتزام بمعاهدة ما بالتصديق على الاتفاقية في عدد من الحالات منها الحالة التي تنص الاتفاقية نفسها على هذا المقتضى أو إذا اشترطت الدولة التصديق أو وقع ممثلها بشرط التصديق أو عبرت الدولة أثناء المفاوضات عن مثل هذه النية وهو ما تفصل فيه المادة 14 من اتفاقية فيينا التي تتضمن كثيرا من الإجراءات التفصيلية التي تسير في هذا الاتجاه وليس المجال مجال وقوف عندها .
لنقرر أولا تهافت أطروحة عصيد المبنية على تصوره الخاطئ والمضلل لمفهوم الكونية من جهتين : أن التوافق على حقوق الإنسان لا يعني وجود تصور مطلق و نهائي مغلق حول كافة القضايا أو التأويلات ومن ثم يبقي هناك قدر موضوع تباينات ثقافية وإيديولوجية ، مما يعني أنه إن كان هناك قدر كبير من التوافق حول القيم الحقوقية الكبرى ، فإنه هناك قدر آخر هو الأقل دون شك يرجع إلى السياقات الحضارية والثقافية والدينية .
ولنقرر ثانيا إنه أحيانا باسم كونية حقوق الإنسان تسعى دول كبرى أو توجهات سياسية أو إيديولوجية فرض قراءتها وتأويلاتها الخاصة لقيم وحقوق الإنسان في خرق سافر لأحد أعظم مقومات حقوق الإنسان الذي هو حق الاختلاف .
الدستور المغربي يقر بالكونية مع حفظ الحق في الاختلاف
تدليس آخر صدر به عصيد مقاله وبني عليه أطروحته بكاملها هي ادعاؤه أن الإسلاميين يتبنون مفهوما للحرية الفردية يتعارض بالإضافة مع مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها، مع تلك المبادئ كما ينصّ عليها الدستور المغربي وتلتزم بها الدولة المغربية" . فدعونا نتفحص هذه الدعوى ونحللها على ضوء نصوص الدستور كي نضبط عصيد متلبسا بتهمة التدليس .
والواقع أن الدستور المغربي اليوم قد حسم بشكل واضح في هذا الموضوع ، وتوصل إلى تركيب يجمع بين مقتضى تقرير حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا وبين مقتضيات التلاؤم اللازم بينها وبين ثوابت البلاد ومقوماتها الحضارية ، علما أن كل دساتير الدنيا تضمنت مقتضيات شبيهة بذلك .
فقد نصت ديباجة الدستور على ما يلي :
" وإدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في هذه المنظمات، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا "
كما جاء في نفس الديباجة أيضا :
"جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة "
وبين الدستور في الفصل الأول منه ماهية الثوابت الجامعة التي تستند عليها في حياتها العامة حيث نص بوضوح على ما يلي :
"تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي "
وبنفس المنطق الذي يسمح به القانون الدولي وتنص عليه اتفاقية فيينا جعل التزامه بتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة كما تنص عليها الاتفاقيات الدولية رهنا بالمصادقة عليها في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة حيت تنص الفصل 19 بوضوح على ما يلي :
" يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية،الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها "
وذلك يعني أنه لا تعارض بين الإعلان عن الالتزام بمنظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا ،وكما نصت عليها الاتفاقيات الدولية ذات الصلة وبين المنظومة الدستورية والقانونية الوطنية ، ما دامت الشرعية الدولية تفسح مجالا للخصوصية الثقافية والحضارية وتضمن الاتفاقيات الدولية الانضمام بطواعية كليا أو جزئيا ، وتضمن الحق في التحفظ ، وهو ما يعني أن الاحتجاج بالكونية يكون في كثيرا من الأحيان احتجاجا مغالطا ، مع التنويه أننا لسنا من أولئك الذين يستخدمون حجة الخصوصية من أجل الإجهاز على حقوق الإنسان المتعارف عليها كونيا حقا وصدقا .
العالم كله يقرر حق المجتمع في التشريع لما يحفظ النظام العام ... لماذا نكون استثناء بإشهار سيف الكونية؟
سبقت الإشارة إلى أن عصيد قد جاء بتصور للحرية الفردية لم يقل يقل به سابقون ولا متأخرون ولم تعمل به حتى فرنسا بلد الثورة وأشدها تشددا في العلمانية ، ولم يقل بها لا القانون الدولي ولا حتى دساتير الدول الأكثر علمانية .
يدعي عصيد أن : مشكلة السيد يتيم ليست في كونه يضع "حق الجماعة" قبل حريات الأفراد الأساسية، بل في كونه يعتبر واقع التخلف واللاتسامح أمرا طبيعيا ومقبولا وحجّة على ضرورة الحجر على الحريات، ودفع الأفراد الراغبين في ممارسة نمط عيشهم المخالف الذي اختاروه نحو العزلة والخلوة في بيوتهم، لكي يبقى الفضاء العام للمحافظين والمتدينين، وهو أمر مخالف كليا لمبادئ حقوق الإنسان، ويفضي تماما إلى تكريس واقع الأنظمة القائمة على الرقابة الدينية المتشددة للمجتمع، وعلى مناخ محاكم التفتيش التي تجاوزتها البلدان الديمقراطية منذ قرون ".
دعونا نفتحص هذه الدعوى ، وهل هي من البدع التي جاء بها يتيم ، والتي ما أنزل الله بها من سلطان ، أم أنها قضية مقررة في الفقه الدستوري " الكوني " ما دامت هذا المصطلح أثيرا عند عصيد ، ويرفعه سيفا مصلتا كلما أراد أن يفرض فهمه الخاص لحقوق الإنسان والحرية الفردية وللديمقراطية ، بحكم أنه يسعى أن يلزمنا بأن نأخذ هذه المفاهيم بحمولات ثقافية علمانية متطرفة ليس عليها اتفاق حتي في الدول والمجتمعات الغربية . لكن برجوعنا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولإعلانات الحقوق في عدد من دساتير العالم ومنها دساتير أوروبية ، نجد أن الأمر مختلف جدا .
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
ففي مادته 29 التي يؤكد الإعلان ما يلي :
على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نمواً حراُ كاملاً.
يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي.
إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا والعلاقة بين الحرية الفردية وحقوق الآخرين
هو الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية في جلساتها أيام 20، 21، 23، 24، و26 غشت 1789 بعد شهرين من النقاشات في إعلان قطيعة مع النظام القديم بعد الثورة الفرنسية وقبل سقوط الملكية. وكان هذا الإعلان سباقا إلى التأسيس لفكرة الطابع غير المطلق للحرية الفردية ، كما يقرر إمكانية الحد من تلك الحريات من ولكن من خلال القانون خاصة إذا كانت ممارستها تمس بالنظام العام ، حيث جاء في الإعلان ما يلي :
المادة الرابعة
كل الناس أحرار والحرية هي إباحة كل عمل لا يضر أحداً. وبناء عليه لا حدًَ لحقوق الإنسان الواحد غير حقوق الإنسان الثاني. ووضع هذه الحدود منوط بالقانون دون سواه.
المادة الخامسة
ليس للقانون حق في أن يحرّم شيئا إلا متى كان فيه ضرر للهيئة الاجتماعية. وكل ما لا يحرمه القانون يكون مباحاً فلا يجوز أن يُرغم الإنسان به.
الدساتير الأوروبية يؤكد أن الحريات الفردية غير مطلقة ولا يجوز أن تؤدي إلى المساس بالمجتمع
الدستور الإسباني والطابع غير المطلق للحرية الفردية .
"حرية المعتقدات الدينية والمذاهب الإيديولوجية مضمونة ولا يمكن أن توضع لها قيود إلا القيود القانونية التي من شأنها حماية النظام العام " الفصل 16 1
يقرالدستور الإسباني في الفصل 20 4 أن الحريات المشار إليها في الدستور ( حرية التعبير ، حرية التأليف ,,,,) مشروطة باحترام الحقوق ومنها الحق في حماية الشرف والخصوصية وحماية الشباب والطفولة.
يقر الدستور الإيطالي أيضا في فصله الثامن حرية المعتقدات الدينية أمام القانون .ويقر أن المعتقدات الدينية غير الكاثوليكية لها الحق في التنظيم حسب أنظمتها الخاصة شرط عدم التعارض مع النظام القانوني لإيطاليا .
يقر الدستور السويسري في الفصل 36 محددات الحقوق الأساسية حيث إمكانية الحد من الحقوق الأساسية ولكن على أساس القانون ، وأن كل حد من هذه الحريات وجب أن يتم بقانون . وتؤكد نفس المادة أن أي تقييد لحق أساسي وجب أن يكون مبررا بالصالح العام أو بحماية الحقوق الأساسية للآخرين .
ويطول بنا الوقت لو ذهبنا نستعرض ما تضمنته دساتير دول متقدمة في هذا المجال ، وبعض التشريعات التي وضعتها من أجل حماية ما تعتبره " فضاء عاما " ، وما قضية منع الحجاب في الفضاءات العامة التي أثارت جدلا كبيرا في فرنسا وعدد من الدول الأوروبية عنا ببعيد ، بغض النظر عن مدى صوابية هذا التوجه ، ولكن كي نؤكد أن لا وجود لمفهوم للحرية الفردية بالمعني الذي يورده "عصيد " إلا في مخيلته .
وبناء عليه فإنه من خلال القانون ، والقانون وحده يمكن الحد من الحريات الفردية في الفضاء العام ، إذا قدرت المؤسسات التشريعية التي تمثل السيادة الشعبية أن بها مساسا بحرية الأفراد الآخرين أو بالنظام الأخلاقي العام للمجتمع ، ولا يجوز تغليط القارئ بالقول : إن هذا حجر على الحرية الفردية ، و أخذ بمذهب : أنت حر ولكن في بيتك . فالمقابل لذلك هو استبداد الأقلية بدعوى ممارسة الحرية الفردية وبدعوى حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها .
ومسألة ثانية أكدنا عليه في مقالات ذات صلة بالموضوع بأن تطبيق القانون ليس شأنا خاصا بالأفراد أو بأمزجتهم الفردية ، وكل ممارسة من هذا النوع هي أيضا خروج عن النظام العام وسيادة القانون .
ومسألة ثالثة نحتاج أن نرجع إليها هو حرية انتقاد أي مواطن لأي ممارسة إبداعية أو ثقافية مهما كانت تعبيرا عن الحرية الفردية ... لكن الملاحظ أن بعض العلمانيين أصبحوا يمارسون إرهابا فكريا ضد المتدينين في أن ينتقدوا سياسات عمومية أو إبداعات فردية ، وهي صورة أخرى من صور الاستبداد الفكري لدى بعض العلمانيين المتطرفين .
ازدواجية المعايير .. ومراوحة بين الدوغمائية والنسبية
غير أن الغريب في موقف "عصيد " أنه بالقدر الذي يبدو فيه دوغمائيا وهو يتحدث عن كونية قيم حقوق الإنسان ، ويعتبرها متعالية عن كل سياق أو تكييف ، ويصادر حق " الجماعة " الذي تؤكد عليه عدد من المذاهب الفلسفية ، وتقره كل الدساتير المتقدمة ، نجده لا يرى النسبية في القيم إلا حين يتعلق الأمر بحق المجتمعات الإسلامية حين تكون لها رؤيتها للعلاقة بين المجال العام والمجال الخاص ، ويصادر حقها في أن يكون المجال العام بواسطة القانون ، ويعتبر أن القانون يمكن أن يكون ناتجا عن مؤسسات صادرة عن ديمقراطية عددية ، وليس عن ديمقراطية حقيقية التي تضمن حق الأفراد في أن يتصرفوا كما يشاؤون ولو كان ذلك مؤذيا للجماعة ومشاعرها وأذواقها وقوانينها
انطلاقا من ذلك يعلن عصيد عن خلاصتين متهافتتين :
1 تصوره الخاص للقانون إذ أنه إذ لم يجد بدا من التأكيد على أن الحريات الفردية ليست حريات مطلقة وأنها محددة بحدود القانون، وأن تقنينها آت من ضرورة التعايش المشترك للجماعة المنظمة التي يخضع جميع أفرادها للقانون الذي يحميهم من بعضهم البعض سرعان ما يصادر على المطلوب كي يؤكد على أن القوانين ينبغي أن تكون ضامنة للكرامة والمساواة والعدل وليس كل قانون يُحترم ويحقق مبدأ التعايش المذكور، وأنه لهذا السبب يقول عصيد نجد معظم نضال الحقوقيين في المنتديات الدولية عبر العالم يتمّ ضدّ قوانين تكرّس الظلم والتفاوت بين الناس في هذا البلد أو ذاك. ومعنى هذا الكلام أن " عصيد " فهمه الخاص للقانون ، أي أن القانون ينبغي أن يطوع لفهمه الخاص لممارسة الحريات الفردية ، وأنه إذا لم يكن ذلك فهو ليس قانونا ضامنا للكرامة والمساوارة والعدل ، وليس ضامنا يحقق مبدأ التعايش .
معنى هذا الكلام إنه إذا رأى فرد أن من ممارسة حريته الفردية مضاجعة خليلته في الشارع العام ، فليس عليك أن تحرمه من ذلك باسم القانون ، وأنه لا معنى أن تقول له استتر بالفاحشة لأنك تقول له : أنت حر ولكن في بيتك .
معنى هذا الكلام أن الاستمرار في منع بيع الخمور للمسلمين هو مجرد نفاق اجتماعي ، وأن مواصلة منعه هو منع للأفراد من ممارسة حريتهم ، وأنه لا معنى أن تجريم السكر العلني وأن تقول إنه إذا استتر الإنسان المسلم بتعاطي الخمر هو أنك تقول له : أنت حر في بيتك .
خلاصة
يزعم عصيد أن اعتمادنا لمرجعية دينية بقراءة سلفية، لا يسمح أبدا بانخراطنا في العصر وقيمه، مما يفسر اتجاه هذا التيار الإسلامي بمختلف تلاوينه إلى استعمال مفاهيم حقوق الإنسان بغرض الالتفاف عليها وإعطائها دلالات أخرى تنسجم مع توجهاته اللاديمقراطية، التي تقوم أساسا على عدم احترام الحق في الاختلاف ,
نكتفي أخيرا بالتعليقات التالية :
1 هل ينتظر منا أن نتخلى عن مرجعيتنا الإسلامية كشرط في العصر وقيمه ؟
2 أي قراءة يطلب منا أن نقوم بها هل هي القراءة التي تدعي أن الوثنية كانت أكثر تحريرا للإنسان من عقيدة التوحيد ؟
3 نتساءل عن حقيقة التوجهات الديمقراطية لعصيد ، وعن مدى إيمانه باحترام الحق في الاختلاف وهو الذي يصادر حق أمة كاملة في الاختلاف من خلال ادعاء الكونية ؟ وهل الأمر يتعلق فعلا بغيرة حقيقة على حقوق الإنسان أم بتوظيف إيديولوجي شوفيني لحقوق الإنسان ؟
4 أما عن تدليسه لموقف الدستور المغربي من قضية حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا فنترك للقارئ أن يستنتج من يوظف آليات الالتفاف كي يعطي لتلك الحقوق ومفهوم الحرية الفردية كي تنسجم مع توجهاته الديمقراطية جدا .