غرض وموضوع أم رؤية للكون ؟
هذه بضعة مقالات من دراسة يعدها الأستاذ محمد يتيم حول ظاهرة الفرق والأجيال الغنائية التي ظهرت خلال سنوات السبعينات والثمانيات وشغلت الفضاء الفني الشعبي وتجاوبت معها الأجيال الشابة والمغاربة في الداخل والخارج بل وجدت صدى واسعا وتقذيرا كبيرا خارج المغرب كانت محا دراسة وتحليل من قبل كثير من الباحثين دون أن تلقى بعذ التقدير والاهتمام الكافيين والاعتراف الذي يليق بقدرها ودورها ظاهرة فريدة أو فلتة فنية من فلتات تاريخ فني سيطرت عليه الرداءة أو الانحباس المرضي النمطي في موضوع واحد هو موضوع الحب والغريزة والنصف الأسفل من الإنسان , ننشر بمناسبة شهر رمضان هذا الجرء المتعلق منها بالعد الديني قي كلام الغيوان على أن ننشر تباعا أجزاءها الأخرى في وقت لاحق .( التجديد )
مقدمة
لا تزال ظاهرة " ناس الغيوان " لغزا محيرا لكثير من الدارسين . فالغيوان تجربة فنية متميزة بل هي فلتة واستثناء جاء ضد السياق . "الغيوان "تجربة ثائرة فنيا في وقت كان السائد هو الغناء أو الفن المتملق . "الغيوان" تجربة ثائرة بأدوات تراثية واستناد على المرجعية الدينية والثقافية الإسلامية والتراثية المغربية في حين كانت " الثورية " آنذاك مرتبطة بالرياح الشرقية ، وكان الدين والتراث عنوانا للاغتراب والاستلاب كما كان يلقن في الخلايا الثورية للشباب .
"الغيوان " تجربة دينية عميقة وشعور روحاني فياض في حين لم يكن يوجد في ظاهر المجموعة مظهر خارجي للالتزام الديني مما يبين عمق الانتماء الديني الإسلامي للشعب المغربي مهما ظهر في السلوك الخارجي من مظاهر متمردة رافضة أو إباحية سادرة او بوهيمية شاردة .
"الغيوانّ تجربة لم تلق من الاعتراف والاهتمام ما يكفي بين ثوريين آنذاك لم يقفوا عند عمقها الحضاري والثقافي فوصفوها أحيانا بالجنوح نحو الغيبية والميتافيزيقية وبين إسلاميين لم يكن كثير منهم يرى في الغناء سوى مزمارا للشيطان ،ولهو حديث يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، هذا في الوقت الذي كان بعض الإسلاميين المتنورين في بعض الدول العربية بعض أن سمعوا لأشرطة غيوانية يظنون أنها فرقة من الفرق الفنية للحركة الإسلامية والواقع أن المغرب باستثناء أن المغرب العميق إسلامي فكرا وثقافة ووجدانا وتاريخا وانتماء .
ومن يظن أن الارتباط بالمرجعية الإسلامية والرجوع إليها في السياسة والثقافة والفن مسألة طارئة مرتبطة بالغزو المشرقي ينسج في خياله مغربا لا علاقة له بالحقيقة التاريخية والحقيقة الثقاقية والبعد العميق في الشخصية المغربية .
من هذا المنطلق قرأت ديوان "الغيوان" وأشعار "الغيوان" فوجدت فيها عمقا أكبر بكثير من العمق الذي يوجد في الأنشودة الإسلامية ، ووجدت فيها من القدرة للنفاذ إلى العقل والوجدان ما لم يتأت للأنشودة الإسلامية دون أن نبخس هذه حقها ، ووجدت فيها من المعاني الجميلة والرصد الدقيق للتغيرات الفكرية والسياسية والأوضاع الاجتماعية في مغرب السبعينات والثمانيات ما لم يوجد في تحاليل بعض المنظرين ، رصد مصاغ في جمالية الزجل المغربي ، ومزينا يزينه الإيقاع المغربي الشعبي بمختلف ميازينه وأوزانه ونغماته .
انطلاقا من ذلك سأعمل على الوقوف على أبعاد عدة في شعر "الغيوان" تبرز تفرد التجربة الفنية الغيوانية مغربيا وعربيا وإسلاميا منها : البعد الديني ، والبعد السياسي ، والبعد القومي ، والبعد الاجتماعي ، والبعد الإنساني ، والبعد الجمالي وغيرها من الأبعاد التي تكشف ثراء كلام الغيوان وتجربة الغيوان خاصة أنه يمتاح في كثير من مضامينه من ذلك الأدب العظيم أي أدب الملحون
1 ـ البعد الديني في شعر الغيوان : غرض شعري أو رؤية للكون ؟
الإشارة الأساسية في هذا المحور هو أن البعد الديني في كلام "الغيوان" لا يحضر فقط كمضمون أو قضايا بل يحضر أساسا كمرجعية ورؤية للكون مؤطرة للقول الغيواني في كثير من القضايا . البعد الديني لم يبرح كلام "الغيوان" حتى وهم يتناولون أغراضا شعرية يبد أنها ابعد ما تكون عن الرؤية الدينية كما هو الشأن في الغزل والتشبب بالمرأة حيث من جهة أولى لم يكن شعرهم وغناؤهم بالمرأة والحب وكأنه هو القضية الوحيدة الموجودة في الكون على غرار ما يسمى اليوم فنا ، وحيث أن تناولهم للمرأة من جهة ثانية جاء تناولا راقيا جميلا عفيفا بعيدا عن الإسفاف .
إن "الغيوان" سيتمكنون من خلال ذلك بأن يقدموا حلا عمليا لإمكانية التلاقي بين الدين والفن بين قيم الحق والخير وبين قيمة الجمال . كما استطاعوا أن يكذبوا تلك النظريات التي تريد أن تجعل بين المجالين جفاء وتناقضا وكأنهما ضدان لا يجتمعان وخصمان لا يلتقيان
والواقع أن أطروحة التنافي تجد تكذيبها في النص الديني نفسه الذي تعتبر الجمالية فيه مقوما من مقومات الإعجاز . كما أن دليل الجمال أو الاستدلال بآيات الجمال إلى جانب آيات الجلال يعتبر من أهم آلياته الحجاجي
البعد الديني في كلام "الغيوان" حاضر في الصور وحاضر في القيم التي يدافعون عنها أو ينتقدونها ، حاضر في الحمولة الأخلاقية والتخليقية لكلامهم الموصول بالحمولة القيمية التي يزخر بها القرآن الكريم وتزخر بهما الثقافة المغربية العالمة والشعبية بمختلف مكوناتها الصوفية والفلسفية والفقهية .
انتقاد قيمة الاستكثار بالبنيان مثلا والتأكيد على الطبيعة الفانية والعابرة للدنيا والاستكثار منها وانتقاد عدم الاعتبار بمصير الأمم الظلمة السالفة والنفاق الاجتماعي وادعاء الصلاح والإصلاح مع الانتهازية والفساد والجهل وسوء الخلق، والتصرف بعقلية الخلود وعدم استحضار الموت والسؤال كلها ، معاني تتكرر في كلام الغيوان كما نجد مثلا في قصيدة " علي وخلي " حيث تقول القصيدة :
تبني وتعلي
تمشي وتخلي
عقلك مدني ، ياخايب الحالة
تبني الحيطان
تشرب الكيسان
تسكن في الفيلة
وعيرك ف نوالة
تحكر الفقير
وتكول التغيير
وانت شفيفير
ماتساواش نعالة
تزور الاوراق
وتشهد النفاق
تسيء الأداب
وتكلم بجهالة
أصلك بخيل وشانك عليل
عيشك قليل
يا عصيد النخالة
مالك أوا مالك
آش جرا لك
ظنيتي راسك خالد وانت للزوالة
مادامت لعاد ولا ورثها شداد
آخرها القبر
وحر السوالة .
وواضح من القصيدة أن النقد الاجتماعي الذي تقوم به القصيدة ويتناول عدة قضايا مثل التفاوتات الطبقية والفساد المالي والخلقي إنما يستند إلى رؤية إسلامية تجد لها أكثر من دليل في القرآن والسنة .و قد كان مثل هذا النقد موجودا على طول التاريخ في ثقافتا الإسلامية وفي ثقافتنا المغربية وفي الأدب الشعبية وفي التراث الفقهي والعلمي ومنه انطلقت الحركة السلفية المغربية والحركة الوطنية في مقاومة الاستعمار . ومن يريد إقصاء الصدور عن المرجعية في العمل السياسي والاجتماعي يريد إلغاء تاريخ ثقافي بكامله وذاكرة أمة بكاملها ووجدانها إلا أن يعتبر التاريخ المغربي كله تاريخا أصوليا والملحون أصوليا والأدب الشعبي المغربي و" الغيوان " وكلامهم قمة الأصولية .