أي الانخراط في هموم الأمة وحماية الثغور والسير في مصالح الخلق والوطن . وتاريخ الدولة المغربية ودور ''الاستبصار الديني '' بتعبير ابن خلدون في الحركية السياسية المغربية شاهد على هذه الحقيقة. صحيح أن ''الكمال الإنساني'' الذي يطلبه ''المتصوف'' عزيز المنال، ولكن إذا لم يتحقق الكمال المذكور، فإن ''ما لا يدرك كله، لا يترك جله''، فتهذيب النفس مبتدءا واستمرارا، وتهذيبها على الدوام حتى ''يأتي اليقين'' مطلب لا غنى عنه لمن يسعى في خدمة مصالح الأمة وطالب سبيل ''السياسة''. وفي هذه المقالة، سعي لبيان العلاقة الوجودية الضرورية بين التجربة الصوفية والتجربة السياسية، إذ لا غنى للأولى عن الثانية، ولا للثانية عن الأولى.
التصوف مصطلحا ومفهوما:
أود أن أوضح في البداية أنني أقصد بالتصوف المعنى الاصطلاحي الذي ظهر عند علماء الأمة والمقصود به علم السلوك إلى الله أي ذلك العمل التربوي الذي يعتكف فيه الإنسان على أجل إصلاح نفسه تخلية لها من كل ''خلق دني وتحلية لها بكل خلق سني'' إما بتجربه خاصة أو بمساعدة ''شيخ ''أو ''مرشد'' أو ''ولي'' أو ''مربي'' أو ''إمام'' أو ما شئت من المصطلحات، إذ لا مشاحة في الاصطلاح مادام المفهوم الذي يدل عليه المصطلح منضبطا بمرجعية القرآن والسنة ويحيل على التجربة النبوية في السلوك إلى الله ولا يضيف عليها في جانب التعبد الذي أصله الإتباع شيئا في المقدار والكيفية.
سياسة وضعية وسياسة شرعية:
أما السياسية فمعناها الانتصاب لخدمة الغير والسير في مصالح المسلمين وتديير الشأن العام، والتماس المصالح لهم ودفع المفاسد عنهم، سواء كانت المصالح المذكورة قد نص عليها صراحة في الشرع أم كانت تحتاج إلى اجتهاد وإعمال للعقل من أجل استخراجها لأنه كما قال ابن القيم: ''أينما كانت المصلحة فثم شرع الله''، غير أن المصلحة كما هو مبين عند الأصوليين منضبطة بعدة ضوابط مبناها على ألا تكون متعارضة مع نص شرعي (النص هنا بالمعنى الأصولي أي بنص قطعي الدلالة قطعي الثبوت) إذ النص بهذا المعنى هو مصلحة أيضا، وأن تكون المصلحة معتبرة لا أن تكون وهمية، وأن تكون منضبطة بمقاصد الشريعة لا بأهواء النفوس وشهواتها. والسياسة بهذا المعنى الشرعي تختلف عن السياسة بمعناها الوضعي الذي نظر له ''ميكيافيلي'' أي من حيث هي ممارسة تتعارض مع القيم والأخلاق، ومن حيث هي صراع قائم على المصالح.
والداخل في السياسة دون تجربة تزكية كالداخل إلى ظلمات بحر لجي يغشاه موج من فوفه موج، الداخل إليه مفقود والخارج منه موجود، ذلك أن السياسية متلبسة بالسلطة والسلطة متلبسة بها، والسلطة مدعاة للاستكبار والاستبداد والطغيان، إذ هي باب الوجاهة ومنبرها الظاهر، والوجاهة وحسن الذكر في الناس والحكم والتحكم من أعظم الشهوات الخفية خفاء دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء التى لا يسلم منها الخلق، ولله في خلقه شؤون.
وهذه حقيقة كونية وجودية، أي هكذا خلق الله الخلق بهذه الغريزة المتأصلة، ولولاها لما انتصب قائم إلى الولاية العامة وخدمة مصالح الناس، تماما كما أنه لولا غريزة الجنس وحب النساء لما تحمل الناس تبعات النسل، ولولا شهوة المال لما انتصب إنسان لعمارة الأرض وسخر بعضهم لبعض. وهل يتصرف الذين يملكون ''ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة'' في كل ما جمعوه واكتنزوه؟ ألم يكن الخلق كلهم زهادا في المال لو اقتصروا فقط على جمع ما فيه سيتصرفون، ولو لم يكن قد ألقي في تركيبتهم النفسية الهلع وحب المال؟ وهل كان لوالد ووالدة أن يلدا لو لم يكن ذلك مدفوعا بغريزة قوية كغريزة الجنس وغريزة الأمومة، وهل كان لصاحب سلطان أن يترك راحة البال وطمأنينة الحال بعيدا عن مكابدات السياسة في السلم وفي الحرب وفي أوقات الاستقرار وزمن الفتن، لولا أن الله قد زرع في النفوس شهوة الجاه التي هي آخر ما يخرج من قلوب الصالحين؟
السياسة إذن من أهم مجالات التحقق بأعلى درجات الترقي في مراتب ''الفناء'' وإنكار الذات والانتصار على حظوظ النفس والتحقق بكل خلق ''سني والتخلص من كل خلق دني''. ولايزعم زاعم تحققا بذلك دون أن يختبر بجاه أومال أو سلطان، أي بدون مكابدة تلك الشهوات وتسخيرها في خدمة الحق والخلق، بدل تغيير الحق وتوظيف الخلق لتلبية شجع النفس من تلك الشهوات؟ وقد تكلم الصوفية عن خلوة مع المخالطة ، وعن أنس بالحق في غمرة اتصال بالخلق ، وضرب بعضهم في ذلك مثلا للحاج يطوف وقلبه ''مع الله في الزحام'' .
السياسة بهذا المعنى هي المجال العملي لاختبار ما حققته تجربة التزكية من خلال الذكر والتبتل وصحبة الصالحين، إنها محك لاختبار حقيقة التجربة ''الصوفية'' أو ''التربوية'' التي تلقاها السالك إلى الله سبحانه.
التصوف معانقة للحق مع مخالطة الخلق:
ولعل البعض قد يذهب إلى أن الحل هو ترك السياسة والانقطاع إلى التصوف حفاظا على نقائه وصفائه من السياسة أن تكدره، أو تقطع جلوتها صاحبها عن خلوته. وهو مذهب ينكره الراسخون في التجربة الصوفية والسالكون على الطريقة السنية ''الجنيدية'' ويرون تمام التحقق في معانقة الحق مع مخالطة الخلق، لأن تلك كانت طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وشبيه بهذا الموقف وقريب منه، ما يذهب إليه البعض عن حسن نية، من ضرورة الفصل بين الدين والسياسة ، بين التجربة الصوفية والممارسة السياسية على اعتبار أن الدين هو مجال ''المطلق'' و''السياسية '' هي مجال النسبي ، وهو قول ليس صحيحا على إطلاقه ، فلا السياسية تستقيم بمنأى عن ''الثوابت '' و''المطلقات'' وعن الأخلاق والقيم ، ولا الدين كل الدين عبارة عن مطلقات وثوابت ، إذ فيه قطعيات وظنيات ومحكمات ومتشابهات ، وفيه نصوص بالمعنى الأصولي الذي أشرنا إليه كما أن فيه نصوصا ظنية تحتمل وتحتمل، ومنطقة فراغ تشريعي أو منطقة ''عفو'' كما ورد في الحديث النبوي، تركت للاجتهاد البشري، ولذلك فالدين أصول وفروع شريعة وفقه، عقيدة وحضارة، نص ومقاصد وتاريخ وثقافة، أخلاق ونظام، تربية وتصوف وسياسة وجهاد.
يريدون علمنة التصوف، ونصبه عدوا للشريعة:
أما بعض من ساءت نياتهم من بعض المنتسبين إلى ''العلمانية'' الشاملة المتطرفة ، فإنهم يقصدون بذلك تحييذا للدين وإعادة إنتاج للتجربة الغربية في العلاقة بالدين في صورتها الغربية المتطرفة ، ومن ثم يريدون أن يفرضوا على الإسلام تصورا لا يستقيم مع حقيقته وجوهره وتاريخه وحضارته ، بل مع حقيقته المعاصرة.
وإذا تحدثوا عن التصوف تحدثوا عن سلوك أقرب إلى ''الترهبن'' و'' الدروشة''، يترك الدنيا لأرباب الدنيا والناس لأرباب الناس، أي على تجربة تؤمن بالخلاص الفردي، تجربة سلبية لا تعرف معروفا، ولا تنكر منكرا، بل وجدنا بعض غلاة ''العلمانيين '' أنصارا لنمط من التصوف ذهب باسم طلب الحقيقة إلى هدم الشريعة ، وباسم ''المعرفة '' و''الذوق'' إلى القول بإسقاط التكاليف. بعض غلاة ''العلمانية'' ودعاة الاستئصال ـ يا للعجب ـ أصبحوا فجأة يدعون وصلا بالتصوف وهم أبعد الناس عن الحقيقة وعن الشريعة ، سعيا لتكرار تجربة حاولها الاستعمار وهي زرع الشقاق بين ''أهل القبلة ''وجعلهم شيعا يضرب بعضهم بعضا ويحارب بعضهم بعضا. وهيهات هيهات فلأهل الشريعة والحقيقة من التبصر والاعتبار بالتاريخ القريب والبعيد، ما يجعلهم يفوتون الفرصة على من يصطادون في الماء العكر، ويريدون باسم ''تصوف خلوي محايد'' تصوفا غارقا إلى النخاع في أسوء أنواع السياسة أي سياسة قائمة على النزاع والشقاق وتوجيه سهام ''المتصوف'' إلى ''الفقيه''، و''صاحب الحقيقة'' إلى ''صاحب الشريعة''، والعكس بالعكس.
في أسباب فساد السياسة:
وتجدر الإشارة أن فساد السياسة ليس داخلا عليها من قبلها ولا هو مرتبط بهويتها وحقيقتها ، فالسياسية في أصلها ومقاصدها نبيلة ، والفساد اللاحق بها قد لحق بها بالعرض لا بالذات بتعبير ''ابن رشد''. ولذلك نقول ونؤكد إن فسادها راجع لأحد أمرين :
ـ فساد في ''التجربة الصوفية'' ونقصد بذلك إخفاقا في حمل النفس على مراد الله - وفشل في تجربة التخلية والتحلية إما بسبب راجع إلى السالك نفسه أو إلى النهج أو الطريقة التي اختارها.
ومن المعلوم أن أفضل طريقة هي الطريقة النبوية المحمدية. وكل التجارب والطرق التي ظهرت في التاريخ الإسلامي اعتمد نجاحها أو فشلها بمقدار الاقتداء بصاحب الطريقة المحمدية حقيقة وشريعة ''انقطاع عن تجربة صوفية'' وأساس الفساد في التجربة السياسية أيضا هو أن تكون مقطوعة الصلة بتجربة صوفية من الأساس أو انقطاع عنها بعض وصل كان في البداية، إذ يقل رجوع السياسي لذاته من حين لآخر لتعهدها والرجوع بها إلى العهد الأول أي إلى عهد الترويض والتحلية والتخلية. أما الانقطاع عن التجربة الصوفية فذلك هو ما تنتهي إليه الدعوة إلى ''العلمنة السياسية'' فالوصل بين الدين والسياسة والدين والدولة ليس مطلوبا فقط على مستوى المرجعية التي ينبغي أن تنطلق منها التجربة السياسية، وهو أمر لا يتصور غيره في دولة إسلامية ومجتمعات إسلامية لأن الدين ليس فقط مجرد تجربة فردية روحية وأخلاقية وشعائر خاصة بل هو يضع أسسا كلية لبناء نظام اقتصادي واجتماعي وقانوني، ومن ينكر ذلك يفعله مكابرة ويريد أن يلغي تجربة أمة بكاملها في مجال التشريع وفي مجال اشتقاق عدة نظم اقتصادية واجتماعية وثقافية من رحم مرجعية الإسلام.
إن الوصل بين الدين والسياسة لازم وضروري أيضا على مستوى الممارسة الخلقية والسلوكية، والذين يدعون إلي فصل الدين عن السياسة يحرمون هذه الممارسة ذات الصلة بميدان التدافع والنضال، من أجل إحقاق الحقوق، وتدبير الشأن العام، من خلفية خلقية قوية وأرضية تربوية عظيمة لا غنى عنها لصلاح المتصدي للشأن العام، الذي يفترض فيه درجات عظيمة من التجرد والزهد.
إن التجارب القريبة والبعيدة تدل على أن فساد السياسة والبنيات الحزبية لم ينتج من نقص في البرامج والمؤسسات والقوانين والمساطير فقط، بل إنه راجع في الجزء الأعظم منه إلى فساد السياسيين وافتقارهم إلى تجربة صوفية حقيقية سابقة أو توقفهم عن ترويض النفس ومجاهدتها حتى لا تقع في أمراض السياسة، والتي على رأسها هوى متبع واعجاب بالرأي ودنيا مؤثرة، وسقوط في المفسدات الكبرى للسياسة وعلى رأسها حب الجاه والتسلط. ويتوهم الكثيرون، حينما يعتقدون أن معالجة أمراض السياسة وأعطابها تكمن في ''لعنها'' وإعلان الطلاق بينها وبين ''التجربة الصوفية''، أو بلغة أخرى ''التجربة التربوية''، وخوض تجربة صوفية ''محضة''، بعيدة عن ''أدران'' السياسة ومؤامراتها وحيلها وألاعيبها. فتلك ''علمانية'' من نوع آخر، لا يأمن مريدها من أمراض وعيوب تظهر بشكل أو بآخر عند ''المتدينين'' و''السالكين'' المتمحضين لـ''الذكر'' و''العبادة''، ظانين أنهم سينجون من آفات كبرى متأصلة في الطبيعة البشرية، ومنها ''حب الجاه'' و''الذكر الحسن''. ألم يقدف بذاكرين لله في جهنم لأنهم لم يكونوا مخلصين في ذكرهم ولعلماء معلمين لم يكونوا مخلصين في علمهم... فدخلوا النار ليس بسبب السياسة وصراعاتها بل بسبب النفس وأهوائها؟. ألم يخرج يقطع عدد من الصالحين خلواتهم ومعتكفاتهم، وبعضها كان بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي تعدل فيه ألف صلاة آيثار لخدمة الخلق، والسير في مصالحهم، امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث ''سمعت صاحب هذا القبر يقول: لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجد شهرا...''؟