ـ أن بعض المداخلات ترجع إلى أفكار وموقف ربما مر عليها أكثر من عشر سنوات ولا تراعي التطور الفكري الذي عرفه طرح الحركات الإسلامية في هذه الفترة .
ـ أن الرؤية النمطية حائل معرفي يحول دون الحوار مع هذا التطور الفكري المشار إليه والذي يؤصل للدولة المدنية وللديمقراطية من داخل المرجعية الإسلامية
ـ النقاش هنا ليس نقاشا مع حركات الغلو والتطرف والقضية المطروحة ليست هي مناقشة أفكار بن لادن لأن بن لادن وما يمثله من فكر لا يملك كفكر الاستمراية التاريخية شأنه في ذلك شأن كل أفكار الغلو وحركاتها التي عرفها التاريخ الإسلامية , لقد ذهبت الخوارج وغيرها من حركات الغلو مذهب أهل السنة والجماعة أي مذهب الأغلب الأعم ومذهب التوسط وهناك قاعد اجتماعية تقول إذا كان المتطرفون يحركون التاريخ فإنهم لا يصنعونه
ـ الحركات الإسلامية والحركات والأحزاب التي تنطلق من المرجعية الإسلامية وهذا هو المصطلح الذي أحبذ استعماله حقيقة واقعة ، ولم يعد النقاش النظري العقيم حول وجود أو عدم وجود دولة في الإسلام وحول ما إذا كان المقصود بالحكم في القرآن والسنة هو الحكم بالمعنى السياسي أم كان ينصرف إلى القضاء . القضية هي أن المسلمين أقاموا أنظمة للحكم وأقاموا دولة لا أقول بالمعنى الحديث فالدولة بالمعنى أي الدولة الحديثة إبداع عصري ، والقرآن والسنة لم يأتيا بنموذج معين للدولة والخلافة الراشدة هي نموذج قيمي في مجال التدبير السياسي أكثر منها نمطا للحكم أو الدولة ولذلك فالدولة داخلة في المصالح المرسلة وضمن نطاق الاجتهاد ، ولكننا نتحدث عن مشروعية بناء نموذج سياسي يستند على المرجعية الإسلامية ، والعالم كله في نظمه السياسية اليوم يرجع إلى مرجعياته الدينية والثقافية ،
بعد تلك المقدمات المنهجية أعوذ للعرض الذي ليس لدي الوقت لاستعراض كل عناصر ونصه مطبوع بين عروض الندوة ولكن في الإجابة على القضية التي يطرحها أي الإسلام بين الدولة الثيوقراطية والمدنية أقرر ما يلي :
ـ الرجوع على نصوص القرآن والسنة يبين أن الإسلام يرفض النظرية الثيوقراطية للحكم كما تدل على ذلك كثير من الأدلة :
1ـ الشهادة أي شهادة أن لاإله إلا الله تنفي أية ألوهية لغير الله وبالتالي لا يمكن أن نصور حاكما من طبيعة إلهية أو يحكم باسم الإله كما أكد القرآن أن الأنبياء لا ينبغي لهم أن يعبدوا الناس لأنفسهم من دون الله كما في قوله تعالى : " ما كان ابشر أن يؤتية الله الكتاب والحكمة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله "
2ـ الشق الثاني من الشهادة وهو يؤكد الصفة الرسولية لمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه مجرد مبلغ عن الله ينفي عنه وهو الشخصية الأكثر أهمية عند المسلمين أي صفة إلهية ويؤكد في أكثر من مناسبة طبيعته البشرية كما في قوله تعالى : " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد "
3ـ النبي صلى الله عليه وسلم ميز بوضوح بين صفته الرسولية وبين صفته البشرية وأنه يتصرف تصرفات بشرية ومنها تصرفاته بالإمامة وتصرفاته بالقضاء وتصرفاته بمقتضى طبيعته البشرية وبين أن بإمكان مراجعة هذا النمط من التصرفات التي يأخذ فيها بالقرائن مثل جميع البشر مثل أحكامه القضائية وتصرفاته بالإمامة مثل مشاروة أصحابه في قضايا السياسة وشؤون الحرب كما وقع في بدر وأحد وغيرهما من المواقف .
4 ـ في أول خطبة سياسية يلقيها أول حاكم مسلم منتخب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أبو بكر الصديق رضي الله عنه، تأكيد للطبيعة المدنية والإنسانية للدولة الإسلامية، ونفي لصفتها الثيوقراطية، حيث قال رضي الله عنه: "أيها الناس: فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني".
ففي هذا المقطع من الخطبة ثلاثة مواطن للاستشهاد على تعارض نظرية الإسلام في الحكم مع النظرية الثيوقراطية وهي:
ـ أن تولية أبي بكر نفسها باعتبارها قد تمت بعد جدل وحوار بين المسلمين وتنافس حول من يستحقها، دليل في ذاتها على أن الإسلام منذ اليوم الأول لم يأخذ بنظرية الحق الإلهي في انتقال السلطة وفي ممارستها.
ـ تأكيد أبي بكر رضي الله عنه على أنه إنما هو واحد من المسلمين، وعدم ادعائه للعصمة والخيرية، فهو يخطئ ويصيب، مع أنه كان أفضل المسلمين آنذاك، وكيف لا وقد شهد له الرسول بذلك، حتى إنه جعل إيمانه يرجح كفة إيمان العالمين.
ـ إن إشارة أبي بكر ومطالبته المسلمين لتقويمه هي دعوة صريحة إلى الأخذ بمبدأ المعارضة في حال اعوجاج الحاكم، كما أن فيه دلالة على أن الحاكم ملزم بضرورة احترام قواعد الشرعية والتعاقد القائم بينه وبين الأمة في إطار دستورها الأسمى. وشرعية المعارضة في التصور الإسلامي، المنبثقة من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبار أن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر تأكيد على بشرية الحاكم وأنه يرد عليه الخطأ والصواب.
5 ـ لا ينبغي النظر الى مفهوم الحاكمية في مقابل سيادة الشعب وقد كنبت منتقدا لفكرة الحاكمية عند سيد قطب لأن الحاكمية الإلهية إذ تعني عند المسلم سمو الشريعة الإسلامية أحكاما ومقاصد على غيرها من المرجعيات التشريعية ، فإن الحاكمية ترتبط بالإيمان والتسليم والرضى من لدن المسلم بأحكام الشريعة وسمو مرجعيتها ، وهنا لا بد من التأكيد على جكلة ملاحظات :
ـ الحاكمية لا تتحقق إلا بالتحاكمية ، وقد ركز الكثيرون على فكرة الحاكمية دون أن يركزوا على قضية أهم وأكبر في التصور الإسلامي أي التحاكمية فلا حاكمية بدون تحاكمية أي دون الإيمان والرضى والتسليم بمرجعية الشريعة وسموها
مصداقا لقوله تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " . الشرعة لا تحكم وإنما تحكم ، ولا ينال المسلم أجر تطبيقها إلا إذا كان ذلك عن رضى وتسليم
ـ انطلاقا من فكرة التحاكمية يبدو رفع الاعتراض بين فكرة الحاكمية والسيادة الشعبية سهلا وواضحا ولا يثير أدنى إشكال
ـ وجب التأكيد على وجوب التمييز بين الشريعة والقانون ، القانون هو تقنيين للشريعة وتنزيل لها في المكان والزمان المحددين ، وإذا كانت الشريعة كلية وخالدة فإن القانون نسبي ومتغير وما هو كان فيه إن ما هو بمقدار تمثله لأحام الشريعة ومقاصدها ,عملية التقنين عملية تشريعية يقوم بها البشر من خلال المؤسسات التشريعية التي يمكن أن تسعين في ذلك بل يجب لأن تستعين بخبراء الشريعة كما يفترض أنها تستعين بخبراء من مجالات أخرى .
ـ القضية الأخرى تتعلق بتطبيق أحام الشريعة ففضلا عن أنها تحتاج إلى التقنيين فإن مسؤولية تطبيقها تقع على أهل الاختصاص أي على سلطات الدولة والحكومة ، ومن ثم فإنه يعتبر فقهيا أن تجاوز سلطات الدولة والحكم والسعي إلى فرض بعض الأحكام خارج سلطتها هو تعدي على تلك السلطات أو افتيات بلغة الفقهاء يستدعي تعزيرا .
ـ من خلال كل ذلك يبين أن الدولة الإسلامية هي في الحقيقة دولة مدينية مرجعيتها دينية،
السؤال الآخر الذي تسعى الورقة لتقديم بعض عناصر الإجابة عليه هو على الشكل التالي : هل يقبل الإسلام بالعلمانية ؟
تبدو إعادة تعريف العلمانية بالعودة بها إلى الأصول قبل ظهور الخلاف مسألة جوهرية، وهو التعريف الذي ينتقل بالعلمانية من نسق مذهبي مغلق للنظر إليها نظرة وظيفية ومقاصدية، أي تسعى للوقوف عند مقاصد العلمانية كما تبلورت في المجتمعات الغربية،
ومن هذه الزاوية يبدو تعريف الدكتور الجابري صائبا حين رفض من جهة تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصلا للكنيسة عن الدولة، مؤكدا عدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، وحين ذهب من جهة ثانية إلى استبداله بفكرة الديمقراطية القائمة على حفظ حقوق الأفراد والجماعات، والعقلانية الضامنة للممارسة السياسية الرشيدة.
فمن الواضح أن الدكتور الجابري قد أكد في تعريفه على الوظيفة التاريخية، ولم يقع أسير التعريف الشمولي للعلمانية أي لم ينظر إليها كنسق مغلق أو معتقد أو مذهب ديني جديد، بل وقف في تعريفه للعلمانية عند مقاصدها ووظيفتها التاريخية .
وإذا أردنا أن نرجع إلى السؤال الذي طرحناه، أي: هل يقبل بالعلمانية ؟
فأستطيع أن أقول إنه يرفضها بالمعنى الشمولي غير التاريخي . وهو معها بالمعنى الوظيفي أي أن الإسلام مع العلمانية إذا كان يقصد بها الديمقراطية القائمة على ضمان حقوق الأفراد والجماعات، والعقلانية الضامنة للممارسة الرشيدة، وإذا كان يقصد بها بناء دولة الإنسان في مقابل الحكم اللاهوتي المطلق، والدولة القائمة على أساس المواطنة من جهة، وتقر بحق غير المسلمين في المواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، والدولة القائمة على سيادة الأمة، وكل ذلك لا يتعارض مع المرجعية الإسلامية للدولة، بل إن المرجعية الإسلامية نفسها هي التي تؤكد على أن تكون الدولة دولة إنسان وترفض أن تعطي للحاكم فيها أية سلطة مطلقة مستمدة من التفويض الإلهي، وذلك يتطلب رفع التعارض الموهوم بين فكرة السيادة وفكرة الحاكمية، وبين الطبيعة الإسلامية للدولة وبين فكرة المواطنة .